
“ارتفاع الأسعار.. بين ضغط الواقع وميزان الشرع”
محمود سعيد برغش

شهدت الأسواق في الآونة الأخيرة ارتفاعًا حادًا في أسعار النفط والمواد البترولية، ما انعكس بشكل مباشر على تعريفة وسائل النقل وأسعار السلع الغذائية والخدمات. هذا الارتفاع يشكّل عبئًا كبيرًا على المواطن، وخاصة أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة، في ظل ثبات الرواتب والدخول التي لم تعد تواكب هذا الغلاء المتصاعد.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية:
ارتفاع سعر الوقود يؤدي تلقائيًا إلى:
زيادة تكلفة النقل، مما يُترجم إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
إنهاك القدرة الشرائية للمواطن.
اضطراب في الأسواق وخلق حالة من التوتر الاجتماعي.
وفي ظل هذا الواقع، بات كثير من المواطنين عاجزين عن تلبية الاحتياجات الأساسية، ما يُفضي إلى تفاقم الفجوة بين الطبقات.
الشق الديني:
الشرع الإسلامي لم يغفل عن قضية الأسعار وغلاء المعيشة، ووردت في ذلك نصوصٌ توضح كيفية التعامل مع مثل هذه الأوضاع.
أولًا: من القرآن الكريم:
قال الله تعالى:
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ [الأنعام: 152]
دلالة على العدالة في التقدير والتسعير وعدم الجور في البيع.
وقال تعالى:
﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85]
فيه نهي صريح عن الظلم التجاري، سواءً من التجار أو المتحكمين في الأسعار.
ثانيًا: من السنة النبوية:
عن أنس بن مالك قال:
غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، سَعِّر لنا. فقال: إن الله هو المُسَعِّر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال
[رواه الترمذي وأبو داود].
ففي هذا الحديث، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير القهري، لكنه في ذات الوقت نهى عن الغش والاحتكار، مما يضع مسؤولية أخلاقية على التجار والدولة لضبط السوق دون ظلم.
ثالثًا: في عهد الخلفاء الراشدين:
أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، راقبوا السوق وأمروا بمنع الاحتكار وضبط الأسعار بالحِكمة.
في عهد عمر بن عبد العزيز، عُرف عنه العدل في التوزيع، والرقابة على السوق، حتى رُوي أن الفقر قد انحسر في عهده.
آراء العلماء والفقهاء:
يرى جمهور الفقهاء أن الأصل في التسعير أن يُترك للسوق، ولكن إذا حدث غش أو احتكار أو استغلال، جاز للدولة أن تتدخل حمايةً للناس.
وقال الإمام النووي: إذا تلاعب الناس بالأسعار، جاز لولي الأمر التسعير لتحقيق العدل.
ارتفاع الأسعار.. بين ضغط الواقع وميزان الشرع”
خاتمة:
الغلاء ظاهرة اقتصادية تتكرر عبر العصور، لكن تظل العدالة والرحمة هما الميزان الذي يحفظ التوازن المجتمعي. على الدولة أن تتدخل حين يختل السوق، وعلى التاجر أن يتقي الله، وعلى المجتمع أن يتكاتف في ظل أزمات الاقتصاد العالمية والمحلية.